الموت

لطالما تساءلت، مثل الكثيرين، حول حقيقة الموت، ولكن قبل 5 سنوات كنت بحاجة لإجابة سريعة ترضي حاجتي لمعرفة المكان الذي ذهب إليه صديقي وأبي.

عند الموت، هل يرحل الشخص؟ هل يفقد وجوده ببساطة؟

الواضح أن أعماله تبقى، وآثار أعماله تبقى، ولكن ماذا عن أفكاره؟ ما هي الأفكار؟ أين تذهب فلسفته وعلمه؟

هنالك أجوبة وآراء متنوعة تستند إلى مصادر مختلفة تجيب أو تحاول الإجابة عن هذه الأسئلة. ولكنني وجدتها لا تقنعني بالقدر الكافي لاتخلى عن متابعة البحث بنفسي.
آنذاك كان عندي وقت كافٍ للتمعن بتلك الأفكار والآراء المتنوعة، ولأقوم باستنباط ما يهمني:

1) مهما تحدث وتناقل الناس حول الموت، الشيء المؤكد لدي هو عدم وجود دليل يقنعني على أن أحد قد مات ثم استدرك وعاش ليقص لنا حكايات مشابهة لما يتم تناقله. ووجدت أن أكثر ما تم وصفه هو شيء يشابه الحلم يكون الشخص به على وشك عبور نهر، ولكنه لا يعبره. وفي حالات أخرى لا يشعر من مات بموته ولا يذكر أي شيء خلال ذلك، وهذا يشبه حالة فقدان الوعي أو النوم بلا أحلام*.

إذن، كنتائج عملية (أي كنتائج لتجربة يمكن تكرارها وإثباتها عند إجرائها بالشروط المناسبة، وليست فقط مذكورة بشكل مكتوب في مكان ما)، النتيجة: لا توجد معلومات تثبت وجود ولا عدم وجود “الروح”.

في حال وجود الروح:

  • لا توجد معلومات حول ما يحصل عند وبعد الموت لهذه الروح.
  • لا يوجد أثر على تفاعل هذه الروح مع مادة عالمنا. وإن كان هذا الأثر موجوداً فإنه دائماً منسجم مع قواعد تصرف المادة وتفاعلاتها، وهذه القواعد مصاغة بشكل قوانين فيزيائية.
  • قد يقرر بعض الناس وجود تواصل فكري مع أرواح آخرين، ولكن لا توجد تجارب تثبت قطعاً ولا تنفي قطعاً هكذا تواصل، ومن الممكن أن يكون هذا التواصل متخيَّلاً.
  • التقمص يبدو وكأنه قصة شعبية أكثر من كونه حالات حقيقية أمكن دراستها فعلياً.

إذن، في حال وجود الروح، فليس لدينا وسيلة لاستشعار هذا الوجود حالياً.

(*) لا يروح فكركم لبعيد، ما عم إحكي عن “الفنانة” أحلام المرعبة.

2) الأعمال والآثار المادية تبقى. لأنها بمجرد انجازها لا تعود مرتبطة بالقوة التي أنجزتها. وبرحيل هذه القوة أو صاحب هذه القوة فهي تخضع لتوازنها الذاتي لتبقى أو تتغير، إلى أن تؤثر بها قوة أخرى.

وهذا وضع مألوف عند الكل ومتفق عليه عموماً.

3) الأفكار والفلسفة هي إنتروبي (Entropy)، وهذا التعريف ينبغي أن يكون وافياً، ولمن لا يعرف ما هي الإنتروبي، أفسرها مادياً بأنها عملية ترتيب ذرية (أي على مستوى الذرات). هذا الترتيب يستهلك طاقة. هذه الطاقة مصروفة بتفاعلات كيميائية حيوية ضمن الدماغ. وهذه الطاقة مستمدة أصلاً من الغذاء (ATP و ADP).

عند الموت تتوقف العمليات الحيوية التي تحافظ على استقرار هذه البنى الذرية، والطاقة المخزونة تنتقل للبيئة المحيطة بحسب طريقة استهلاك مادة الذاكرة**.

إن طاقة الأفكار هذه لا تنتقل للأثير، مثلاً. أي أنها لن تصبح كما يتخيله البعض كغيمة طاقيّة تنتشر عبر المكان لتؤثر بما حولها آنياً. ما يبدو أكثر واقعيةً (وأكثر خيبةً للأمل) هو أنها تنتقل للكائنات التي تقتات على الجسد الميت، والتي هي غالباً ما تكون بكتيريا وفطور وديدان.

إذن ما يبقى في عقل الشخص سيقوم باستهلاكه من لا يعي كيفية الاستفادة منه.

أما من يقوم بمشاركة نواتج فلسفته وعلمه مع الآخرين فهو بذلك يضمن استمرار بقاء ما عمل عليه جاهداً. بل يضمن أيضاً متبعة تطوير فلسفته وعلمه، وهذا ما أدى لتسارع تطور الأنظمة البشرية بعد اختراع الكتابة والطباعة والإنترنت وما سيليها.

(**) هنالك دراسات تقترح أن الذاكرة (أو معلومات الذاكرة) ليست مخزنة في الدماغ، وبعضها يقترح أنها ليست مخزنة بشكل مادي. هذه الدراسات لم تصل لنتائج مفيدة بعد. إذا حصل إثباتها فسيتوجب عليّ إعادة النظر بهذه الفكرة.

إذن قد مات صديقي أبي منذ خمس سنوات، ولكن أثره باقٍ، مادياً ومعنوياً. لربما لم تتوفر لديه الوسائل المناسبة لنسخ فلسفته وعلمه بشكل فعّال، ولكنه لم يقصّر باستثمار ما أتيح له استثماره. الكثير من فلسفته وعلمه محفوظ معي، وقد بنيت عليها وطوّرتها بالشكل الذي وجدته أفضل. كذلك فقد ترك آثاراً مادية كثيرة…

بالتأكيد، هذا العالم الآن هو بحال أفضل بسبب مساهمته به. ولا يقتصر الأمر على البشر فقط، بل قد كان للبكتيريا والفطور والديدان حصّتهم أيضاً.

أنا و هم و آخرون نشكره لمروره في هذا العالم.

———

ملحق:

بعد ما كتبت ما سبق ببضع ساعات قرأت خبر متعلّق، بيقول انه حسب آخر الدراسات: الذكريات والصفات الشخصية هي “طريقة تفاعل وارتباط الخلايا العصبية مع بعضها”، وانه من الناحية النظرية قد يكون من ممكن ان يعاد تمثيل هذه الارتباطات في عقل آخر. ولكن التقنيات المتاحة حالياً بعيدة جداً عن تحقيق شيء كهذا.

المصدر: http://www.iflscience.com/brain/could-you-transfer-your-consciousness-another-body

This post was originally posted by me on Facebook on 2015-06-18. The comments can be read at: https://www.facebook.com/notes/10157591285452890/